الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة.وقال عكرمة وشهر بن حوشب: {الذين في قلوبهم مرض} هم: الزناة.والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، يقال: أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرًا متزلزلًا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة.يقال: رجفت الأرض، أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفًا، والرجفان: الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافًا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر: والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه، ومنه قول شاعر: وقول الآخر: وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا، ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله سبحانه بقوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك.قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلًا} فهذا فيه معنى: الأمر بقتلهم وأخذهم: أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف.قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية.وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله: {ملعونين} إلخ، إنما هو لمجرّد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم ولا تسليط لهم عليهم، وقد قيل: إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف، فلم يغره الله بهم، وجملة: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} جواب القسم، وجملة {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلًا} معطوفة على جملة جواب القسم، أي لا يجاورونك فيها إلاّ جوارًا قليلًا حتى يهلكوا، وانتصاب {مَّلْعُونِينَ} على الحال كما قال المبرد، وغيره، والمعنى: مطرودين {أَيْنَمَا} وجدوا وأدركوا {أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ} دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا {تَقْتِيلًا} وقيل: إن هذا هو الحكم فيهم، وليس بدعاء عليهم، والأوّل أولى.وقيل: معنى الآية: أنهم إن أصرّوا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلاّ وهم مطرودون.{سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين، وهو منتصب على المصدر.قال الزجاج: بين الله في الذين ينافقون الأنبياء، ويرجفون بهم: أن يقتلوا حيثما ثقفوا {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} أي تحويلًا وتغييرًا، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف.{يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة} أي عن وقت قيامها وحصولها قيل: السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون، والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعادًا، وتكذيبًا {وَمَا يُدْرِيكَ} يا محمد، أي ما يعلمك ويخبرك {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} أي في زمان قريب، وانتصاب {قريبًا} على الظرفية، والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها وهو: رسول الله، فكيف بغيره من الناس؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم.{إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين} أي طردهم وأبعدهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ} في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهنّ في الدنيا {سَعِيرًا} أي نارًا شديدة التسعر {خالدين فِيهَا أَبَدًا} بلا انقطاع {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا} يواليهم ويحفظهم من عذابها {وَلاَ نَصِيرًا} ينصرهم ويخلصهم منها، و{يوم} في قوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} ظرف لقوله: {لا يجدون} وقيل: ل {خالدين} وقيل: ل {نصيرا} وقيل: لفعل مقدر، وهو: اذكر.قرأ الجمهور: {تقلب} بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول.وقرأ عيسى الهمداني وابن أبي إسحاق {نقلب} بالنون، وكسر اللام على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه.وقرأ عيسى أيضًا بضم التاء وكسر اللام على معنى: تقلب السعير وجوههم.وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى: تتقلب، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية: هو تقلبها تارة على جهة منها، وتارة على جهة أخرى ظهرًا لبطن، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسودّ تارة وتخضرّ أخرى، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى، فحينئذ {يَقُولُونَ ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} والجملة مستأنفة كأنه قيل: فما حالهم؟ فقيل: يقولون، ويجوز: أن يكون المعنى: يقولون يوم تقلب وجوههم في النار {ياليتنا} إلخ.تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول، وآمنوا بما جاء به؛ لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون، وهذه الألف في {الرسولا} والألف التي ستأتي في {السبيلا} هي: الألف التي تقع في الفواصل، ويسميها النحاة ألف الإطلاق، وقد سبق بيان هذا في أوّل هذه السورة.{وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى، والمراد بالسادة والكبراء: هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدّة التعصب.وقرأ الحسن وابن عامر: {ساداتنا} بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع.وقال مقاتل: هم: المطعمون في غزوة بدر، والأوّل أولى، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة {فَأَضَلُّونَا السبيلا} أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله، والسبيل هو: التوحيد، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف، فقالوا: {رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي مثل عذابنا مرتين.وقال قتادة: عذاب الدنيا والآخرة، وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال {والعنهم لَعْنًا كَبِيرًا} قرأ الجمهور: {كثيرًا} بالمثلثة، أي لعنًا كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس.وقرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة، أي كبيرًا في نفسه شديدًا عليهم ثقيل الموقع.وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين؟ قال: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت وقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا.فأوحي إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ»، وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: كان نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرّضون لهن فيؤذين، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه: {يا أيها النبي قُل لأزواجك} الآية.وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين يؤذيهنّ، فإذا قيل له قال: كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زيّ الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلاّ إحدى عينيها {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ} يقول: ذلك أحرى أن يعرفن.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههنّ من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة.وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أمّ سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن رءوسهنّ الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة، وليس لها معنى، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال: كأن على رءوسهم الطير.وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت {يا أيها النبي قُل لأزواجك} الآية.شقن مروطهن، فاعتجرن بها، وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسهنّ الغربان.وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرّة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين: أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنع وتشدّه على جبينها.وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب في قوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} يعني: المنافقين بأعيانهم {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك: يعني المنافقين أيضًا.وأخرج ابن سعد أيضًا عن عبيد بن جبير قال: {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة} هم: المنافقون جميعًا.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال: لنسلطنك عليهم. اهـ.
|